في سنة 1964، وبعد محاولات متكررة وفاشلة للحصول على مصادقة قانونية في إسرائيل، قامت حركة الأرض بإرسال رسالة للأمم المتحدة تشرح من خلالها ضائقة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وتطالب بتدخل المجتمع الدولي. بعد حوالي 40 عامًا، وفي حين بقيت معظم المشاكل على حالها، قررت مجموعات فلسطينية في إسرائيل أن تنشر وثائق تعرض السرد التاريخي لهم ومطالبهم بالحقوق الجماعية (هذه الوثائق تتضمن التصور المستقبلي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل الصادر عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل ، مشروع الدستور الديمقراطي الصادر عن مركز عدالة ووثيقة حيفا، الصادرة عن مركز مدى للدراسات، التي سأتطرق إليها كوثائق التصور). من خلال التمحيص بهذه الوثائق، تسعى هذه المداخلة إلى بحث الطرق الخطابية التي استعملها المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل كاستراتيجيات بديلة للنضال السياسي.
سأبدأ بعرض قصير لتاريخ الفلسطينيين مواطني إسرائيل وخلفية نشوء حركة الأرض ومن ثم سأطرح أسئلة بخصوص المدلول السياسي لفعاليات هذه المجموعات. من الواضح أنه هناك فروق بين وثائق التصور المختلفة، إلا أنني في بحثي المقارن سأركز على ما هو مشترك بشكل واضح بين هذه الوثائق الذي يستطيع تعميق فهمنا للفروق بين توجه الأرض والتوجه في سنوات الـ 2000.
بعد قيام دولة إسرائيل وتشريد معظم الفلسطينيين خلال عام 1948 والهجرة اليهودية المكثفة إلى البلاد، أصبح الفلسطينيون اقلية صغيرة تفتقد القيادة إذ أن معظم أفراد "الطبقة السياسية"، أي القيادات السياسية والمثقفين وسكان المدن أضحوا لاجئين. انعدام القيادة، بالإضافة إلى الحكم العسكري، أديا إلى فراغ سياسي في المجتمع الفلسطيني.
في تشرين أول 1948 أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن نظام الحكم العسكري في الجليل والمثلث والنقب، المناطق التي شملت 75% من المواطنين الفلسطينيين في الدولة. اعتمد هذا النظام على قوانين الطوارئ الانتدابية البريطانيه وبموجبه مُنحت للحاكم العسكري صلاحيات واسعة بما في ذلك تقييد حرية التحرك للفلسطينيين عن طريق نظام التصاريح. بالإضافة إلى ذلك، كان للحاكم العسكري صلاحيات الإعلان عن إغلاق مناطق وإبعاد الأشخاص عن بيوتهم أو اعتقالهم بدون إدانة. كانت هذه الصلاحيات غير محددة تقريباً إذ لم يكن هناك نظام إشراف إداري وامتنعت المحكمه العليا عن التدخل لحماية الحريات كلما استخدم الحكم العسكري حجة أمن الدولة. أدى الحكم العسكري، الذي استمر حتى عام 1966، إلى تقييدات واسعة للحياة الإقتصادية والسياسية للفلسطينيين.
في هذه الظروف، تأسست حركة الأرض في سنة 1959 على يد مجموعة من الشباب الفلسطينيين القوميين. في تلك الفترة، تمحور النشاط السياسي للفلسطينيين في إسرائيل حول ثلاثة أحزاب: الحزب الحاكم، مباي، حزب اليسار الصهيوني مبام والحزب الشيوعي الإسرائيلي، الحزب اللاصهيوني الوحيد آنذاك, والذي مثل الفلسطينيين ونادى بمطالبهم خلال العقد الأول وأصبح سنة 1955 القوة السياسية المركزية في أوساطهم. في منتصف الخمسينات، بعد ثورة عبد الناصر في مصر التي قادت الى انتشار القومية العربية ودعم الوحدة العربية -وخصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 195، أصبح هنالك ازدياد في الوعي القومي لدى الفلسطينيين في إسرائيل وانتشر دعم الناصرية، حتى ضم جزءا من قيادة وأعضاء الحزب الشيوعي الذين اصبحوا يدعمون الجمهورية العربية المتحدة ويستعملون الإطار الخطابي العربي المناهض للامبريالية.
في إطار الوعي القومي المتزايد نشأت عام 1958 حركة سياسية جديدة، وهي الجبهة الشعبية. أنشئت هذه الحركة على يد قيادة الحزب الشيوعي وقياديين وطنيين لا- حزبيين كرد فعل على وحشية الشرطة ضد المتظاهرين العرب في مظاهرة أول أيار في مدينة الناصرة حيث جرح العشرات واعتقل المئات من النشطاء. أُقيمت الجبهة على أساس أوسع برنامج أمكن الموافقة عليه آنذاك: طالبت الجبهة بالحقوق الشرعية للمواطنين العرب بما في ذلك حق العودة، وقف مصادرة الأراضي وإلغاء الحكم العسكري وكل مظاهر التفرقة العنصرية. استمر نشاط الجبهه السياسي حتى بداية 1959 عندما ساءت العلاقات بين عبد الناصر والشيوعيين في العالم العربي، إذ انقسم أعضاء الجبهة بين القوميين الذين دعموا موقف عبد الناصر والشيوعيين الذين دعموا الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم الذي حظي بتأييد الحزب الشيوعي العراقي. أدّى هذا التوتر إلى انقسام الجبهة إلى قسمين: الأول استمر بنشاطه تحت اسم الجبهة والتعاون مع الشيوعيين والآخر، الفئة القومية التي تركت الجبهة وقررت إقامة حركة الأرض.
في اجتماع في مدينة الناصرة قرر أعضاء حركة الأرض إنشاء جريدة لنشر آرائهم, إذ رأوا بأنفسهم جزءا من النهضه القومية العربية ومن خلال مطالبهم طمحوا لتغيير الوضع في المنطقة مطالبين إسرائيل "بقطع علاقاتها مع القوى الأستعمارية في العالم" وبان تصبح جزءا حقيقياً من الشرق الأوسط ونادوا بتغيير وضع العرب في إسرائيل عن طريق إلغاء الحكم العسكري وتحقيق المساواه التامة.
منذ بداية طريقها سببت حركة الأرض ارتيابًا للحكومة الإسرائيلية. ففي أيلول 1959 صرح مستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب أن على الحكومة أن توقف فعاليات الحركة قبل أن تتحول إلى "البيت الطبيعي لمعظم المواطنين العرب في الدولة". كان الخوف الرئيسي هو أن تعرض حركة الأرض مطالب الأقلية العربية وإذا حظيت بتمثيل في الكنيست, أن تصعب على الحكومة الاستمرار بسياستها. استمر ارتياب الحكومة من الحركة طوال سنوات نشاطها وتجلى هذا الارتياب من خلال منعهم من إنشاء الجريدة وإنشاء أطر للنشاط بالإضافة إلى تهديد ومضايقة أعضائها.
بعد أن فشلت محاولات الحركة الحصول على تصريح لإنشاء صحيفة تقرر استغلال ثغرة في قانون الصحافة الإسرائيلية أمكنتهم من نشر 13 عدداً في إطار منشورات منفصلة، تعتبر قانونية، واحتوت جميعها على كلمة الأرض في العنوان. عَكَسَ محتوى ولغة الصحيفة الأيديولوجية القومية لأعضاء الحركة إذ أوردت تقارير متعاطفة عن الأحداث في مصر والمشروع القومي العربي وعرضت تحليلاً للحرب الباردة بدا فيه تأثير الأيديولوجية الناصرية واضحا وانتقدت السياسة الإسرائيلية مركزة على وضع العرب في إسرائيل. ولكن بعد نشر 13 عدداً اعتقلت السلطات الإسرائيلية وحاكمت عددا من مؤسسي المجموعة وأُوقف نشر الصحيفة عام 1960.
أمضى أعضاء الحركة، ومعظمهم من المثقفين وبعضهم ذوو ثقافة قانونية، امضوا السنوات التالية في محاولات للحصول على إطار قانوني يمكنهم من النشاط. لهذا الغرض انشأوا شركة تجارية وأعادوا محاولة نشر الصحيفة ثم حاولوا إقامة جمعية وفي النهاية، بعد أن أعلنت الحكومة عنهم كمجموعة غير قانونية عام 1964، حاولوا في سنة 1965 الاشتراك في انتخابات الكنيست. من خلال هذه الخطوات، توجه أفراد حركة الأرض للمحكمة العليا 6 مرات خلال 5 سنوات.
في حزيران 1964 وبعد أن رُفض طلبهم لنشر الجريدة مرة أُخرى, قرر أفراد حركة الأرض إرسال رسالة للأمم المتحدة يتحدثون فيها عن وضع العرب في إسرائيل. في هذه الرسالة أسهبوا في الكلام عن الحكم العسكري الذي عاش الفلسطينيون في ظله وعن الظلم الذي لاقوه وعن انتهاك حقوقهم السياسية، مرفقين تفاصيل عن سياسة التفرقة العنصرية المستمرة وعن قمع الحكومة للعرب واضطهادهم وادعوا أن هذه السياسة تهدف "لإطفاء الحس القومي للعرب وللتدمير التام للكيان العربي القومي في إسرائيل" من أجل تحقيق المخطط الصهيوني الهادف لإقامة دولة فقط يهودية.
كانت الرسالة بروحها وثيقة قانونية إذ أكثرت من الإشارة لقوانين وقرارات المحكمة الإسرائيلية من اجل إثبات الظلم. توسعت الرسالة في الشرح عن وضع العرب في أربع مجالات: الأراضي، الحكم العسكري، المجال الثقافي والتفرقة العنصرية.
بالنسبة للأراضي، أشارت الرسالة إلى القوانين والوسائل القانونية التي استعملتها إسرائيل من اجل مصادرة الأراضي العربية والسيطرة عليها، بما في ذلك أراضي الوقف الإسلامي, في سعيها لتحويل الجليل إلى كيان يهودي، وهي سياسة اعتبرتها الحركه كسياسه عنصرية مخالفة لتعهدات إسرائيل الدولية ولقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.
بالنسبة للحكم العسكري، أشارت الرسالة الى القيود الشديدة للحريات السياسية وحرية التعبير عن الرأي الناتجة عن استعمال قوانين الطوارئ لسنة 1945 التي طبقت ضد العرب فقط والتي استعملت من اجل مصادرة الأراضي ومنع إنشاء كيان عربي مستقل. دحضت الرسالة الادعاء بأنّ هدف الحكم العسكري هو المحافظة على الأمن بالاعتماد على تصريحات سياسيين ومثقفين إسرائيليين بالإضافة إلى الإشارة إلى الاعتراضات القانونية على قوانين الطوارئ التي قدمها اليهود زمن الانتداب.
وفيما يخص المجال الثقافي، اتهمت حركة الأرض الحكومة الإسرائيلية بالتدمير المتعمد للتعليم العربي من أجل دفع الشباب العرب إلى الاندماج أو الهجرة كما وقالت إنّ إسرائيل تعامل المواطنين العرب كمواطنين من الدرجة الثانية وأن التفرقة العنصرية شملت مجالات العمل في القطاع العام والخدمات والصحة والتعليم والسلطات المحلية بالإضافة إلى التفرقة في الحقوق السياسية. عرضت حركة الأرض قصة معاملة الدولة لها كمثال على هذه التفرقة. قالت الأرض أنها "صوت عربي فخور" جاء ليطالب بالحقوق والاحترام لتقاليد ومشاعر العرب في إسرائيل باعتبارهم فلسطينيين وجزء من العالم العربي. وعرضت الرسالة أهداف الأرض على أنها: المساواة التامة وإلغاء التفرقة، القبول بقرار التقسيم كحل عادل للسلام في الشرق الأوسط والاعتراف الإسرائيلي بالحركة القومية العربية. ومن خلال الرسالة عرضت الأرض الخطوات التي اتخذتها من اجل الحصول على الاعتراف الإسرائيلي وسلب إسرائيل لحقوقهم السياسية بما في ذلك تفاصيل قرارات المحكمة العليا.
في نهاية الرسالة طالبت الأرض بتدخل الأمم المتحدة لحماية المواطنين العرب في إسرائيل معلنة فقدان الثقة بحماية المحكمة الإسرائيلية لهم. في النهاية صرحت الأرض "أن السلام والاستقرار في المنطقة، وكذلك المستقبل الغامض لإسرائيل، يتعلقون فقط بتصرف حكام إسرائيل".
استمر احتجاج المواطنين الفلسطينيين على سياسة إسرائيل العنصرية حتى بعد إلغاء الحكم العسكري رسميا عام 1966. على الرغم من حصول بعض التغييرات في الوضع فعلياً إلا أنّ السياسة التي كانت مصدر التعامل مع المواطنين الفلسطينيين لم تتغير كثيراً. مع استمرار النضال من أجل المساواة ركز المواطنون الفلسطينيون جل نشاطهم السياسي من اجل إنهاء الاحتلال في المناطق الفلسطينية التي احتلت عام 1967. ولكن منذ أواسط التسعينات مر الفلسطينيون بتغييرات جمة: توقيع اتفاقيات اوسلو مع القيادة الفلسطينية، الذي جعل مكانة المواطنين الفلسطينيين خارج المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، وفي نفس الوقت أدى إلى آمال كبيرة بالتغيير. هذه الآمال انتهت مع بدء الانتفاضة الثانية وخيبة الأمل من الوضع في المنطقة ووضع المواطنين الفلسطينيين الذين واجهوا من جديد نفيهم من المجتمع وتعامل الدولة والأغلبية اليهوديه معهم كـ"طابور خامس" وعدوانية متجددة أدت إلى قتل 13 مواطن خلال أسبوع على يد قوات الأمن الإسرائيلية. في هذه الظروف طرأت الحاجة عند المواطنين الفلسطينيين لفحص مجدد لموقفهم ومركزهم، وهنا يجب فهم وثائق التصور المستقبلي.
كما حدث عند إرسال رسالة حركة الأرض للأمم المتحدة فإنه في هذه الحالة وبعد أن فهم الفلسطينيون محدودية النضال القانوني والنضال الجماهيري, توجهت المنظمات الفلسطينية لنضال آخر. حيث أراد المواطنون الفلسطينيون التعبير عن رفضهم بطريقة إضافية وإدخال الخطاب والسرد التاريخي الخاصين بهم في المباحثات الجماهيرية من خلال نشر وثائق التصور. فيما يلي, سأعرض تحليلاً للخطاب في الوثائق التي استعملت في هاتين الفترتين كجزء أولي في بحث فحوى الفروق والمعنى السياسي لها.
هناك اختلافات مهمة في الفحوى ووجهة النظر بين رسالة الأرض ووثائق التصور المستقبلية. بالنسبة للفحوى، فعلى الرغم من التشابه الأساسي في المطالب العملية فإن موضع قضية الهوية يطرح نفسه. وثيقة الأرض تستعمل بالأساس وصف "العرب في إسرائيل" مع تغيير التوجه حسب النطاق المحدود: المجتمعات والأقليات العربية، المواطنون وحتى "الفلسطينيون سابقاً الذين فضلوا البقاء في إسرائيل بعد 1948". فقط في نطاق وصف إيديولوجية الحركة تنص الرسالة على أن " حركة الأرض تؤمن أن العرب في إسرائيل هم جزء من العرب الفلسطينيين الذين هم جزء لا يتجزأ من كل الأمة العربية". بالمقابل ففي وثائق التصور تظهر قضية الهوية كقضية مركزية. هكذا فان افتتاحية وثيقة حيفا تعلن " نحن أبناء وبنات الشعب العربيّ الفلسطينيّ . . . نؤكد في هذه الوثيقه على أسس هويتنا وانتمائنا". هذه الهوية تعتمد على العلاقة مع الشعب الفلسطيني والأمة العربية والوطن . تتطرق الوثيقتان الاخريتان للمستويات المختلفة: عرب، فلسطينيون، مواطنو الدولة بالإضافة إلى العلاقة مع الحضارة الإسلامية. في هذا السياق تؤكد الوثائق على أهمية تعريف الجمهور "كأقلية وطن", كتعريف الذي يحمل في طياته معاني بالنسبة للحقوق التي تنبع من الاعتراف المطلوب. كجزء من البحث في قضية الهوية، تؤكد وثائق التصور على التاريخ كمركب مركزي وخصوصاً تركز على النكبة والاعتراف بها كنقطة مهمة ليس فقط كمركب هوية وإنما أيضاً كعامل مهم في العلاقات بين الدولة ومواطنيها الفلسطينيين وكمتطلب ضروري للحل المستقبلي. بهذا يصبح الاعتراف بالظلم التاريخي وحق العودة، بحق تقرير المصير للفلسطينيين والاعتراف بالحقوق المتساوية للفلسطينيين في إسرائيل مركبات لا يمكن الفصل بينها. في هذا الخطاب تحدَّت الوثائق تعريف الدولة كدولة يهودية. حسب رأيي، ينبع الفرق في خطاب قضية تأكيد الهوية من الفرق في هدف الوثائق: حيث أنه في حين أن حركة الأرض أرسلت الرسالة كجزء من مشروع سياسي محدد طمحت له في اطار المشروع القومي العربي, تركز وثائق التصور على القيمة التبليغية والتصريحية لها.
في ختام الرسالة، عرضت الأرض ادعاءاتها ضد الظلم الإسرائيلي وطالبت بتدخل دولي بالاعتماد على قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. بالمقابل تتعمق وثائق التصور في البحث فيما يخص حل تعقيدات الوضع من خلال بحث ونقد ذاتي. فبالإضافة إلى البحث بالنسبة للمسؤولية القانونية والتاريخية الإسرائيلية تبحث وثائق التصور مسؤولية المواطنين الفلسطينيين. من هذا المنطلق تبحث الوثائق مواضيع إضافية وتركز ليس فقط على المشاكل السياسية وتبعياتها وإنما أيضاً على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، مع تحمل المسؤولية. وفقا لذلك تعرض الوثائق أوجه عملية وتطبيقية للتغلب على الوضع. فالدستور الديمقراطي يقترح دستوراً جديداً كنقطة بداية لبلورة العلاقات ليس فقط بين الدولة ومواطنيها الفلسطينيين بل كأساس لـ" دولة ديمقراطية ثنائية اللغة ومتعددة الثقافات ". وثيقة "التصور المستقبلي" تقدم اقتراحات عملية للتغلب على الوضع الحالي بشكل شامل من خلال التطرق إلى العلاقة مع الدولة والوضع القانوني بالإضافة إلى المواضيع المفصلة كقضية الأرض والتخطيط، الاقتصاد، الثقافة، التعليم والتطوير الاجتماعي. بهذا البحث تركز الوثائق ليس فقط على المجموعة وإنما أيضاً على الفرد كجزء مهم في تعريف الحقوق والحلول.
بالإضافة إلى فحوى الوثائق يعلو السؤال: من هو الجمهور المعني به. بالإضافة إلى الأمم المتحدة أرسلت الأرض رسالتها التي كتبت بالانجليزية إلى الممثليات الأجنبية في إسرائيل وإلى أعضاء الكنيست والحكومة. في وقت لاحق, تُرجمت الرسالة إلى العربية ونُشرت كمذكرة وزعت في القرى الفلسطينية. من هنا يمكن الاستنتاج أن الوثيقة هدفت أولاً إلى إثارة النقاش خارج النطاق المحلي كاستمرار للجدل مع الحكومة الأسرائيليةً ولاحقا بعد أن ترجمت كجزء من الجدل الداخلي العربي ومن أجل عرض مراحل الصراع مع الحكومة. وثائق التصور نشرت بالعربية، العبرية والانجليزية في نفس الوقت وهدفت بشكل واضح لإثارة نقاش حول مواضيعها في المجتمع الفلسطيني ذاته في إسرائيل وبأطر أوسع. فالدستور الديمقراطي يعرض بديلاً للجدل الإسرائيلي الذي يرتكز على السؤال "من هو اليهودي" ووثيقة "التصور المستقبلي" تعلن أن أهميتها هي في الجدل الذي ستثيره.
ولكن عدا عن اللغة والتصريحات في الوثائق فإن نقطة التوجه تشير أيضاً إلى الهدف. ففي حين ترتكز وثيقة الأرض على القوانين الإسرائيلية مع التطرق للأنظمة الدولية من خلال الارتباط بخطاب الوحدة العربي التي أثرت على أيديولوجيتهم وكانت جزءاً من برنامجهم السياسي, فإن وثائق التصور ترتكز إلى حد كبير على المبادئ الكونية: الخطاب فيها يشير إلى القيم الكونية وإلى التاريخ العالمي وتعتمد المطالب على الاتفاقيات والمواثيق الدولية. هكذا تنقل هذه الوثائق البحث من الإطار المحلي والعملي إلى نطاق أوسع ينضم الى خطاب المؤسسات اللا-حكومية العام، أي الخلفية للمؤسسات التي كتبت وثائق التصور.
ردود الفعل التي حظيت بها رسالة الأرض كانت مختلفة عن وثائق التصور الى حد كبير وينبع الاختلاف، على الأقل جزئيا، من الاختلاف بين الوثائق. رسالة الأرض حظيت باهتمام كبير في الصحافة الإسرائيلية التي كانت عدائية. نشرت الصحافة الإسرائيلية أن الحكومة تجمع المعلومات عن نشاط الأرض وأن سلطات الأمن تفكر في اتخاذ خطوات صارمة ضد الحركة من اجل منع النشاط المعادي لإسرائيل بالإضافة إلى ادانتهم باحتقار المحكمة بسبب تصريحاتهم عنها. الرسالة نفسها وصفت بأنها رسالة متطرفة وعدائية، وتركز البحث في تصريحات الأرض بالنسبة للمحكمة وبالنسبة لسياسة الحكومة. هذه التقارير تجاهلت غالباً فحوى ادعاءات الأرض بالنسبة للعنصرية والتمييز وكون الرسالة استندت أساساً على مصادر قانونية إسرائيلية ولم تحاول دحض صحتها. بالمقابل، فقد حظيت وثائق التصور برد أكثر تنوعاً. على الرغم من تعرض الوثائق لهجوم شرس من قبل جزء من الجمهور الإسرائيلي والدولي الذي اعتبوها اعتداءً على أسس مقدسة للدولة فإنها نجحت بإثارة جدل أوسع وأعمق في أوساط الجمهور المحلي الفلسطيني والإسرائيلي. بالرغم من عدم وجود موافقة على محتواها الخطابي فقد تم بحثها وهي مستمرة بالتواجد كجزء من النقاش بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل.
فقد كُتبت رسالة الأرض ووثائق التصور كجزء من الخطاب في المجتمع الفلسطيني في اسرائيل في لحظات تاريخية مختلفة تماماً. فبينما سعت الأرض إلى عرض مطالبها كجزء من محاولة بناء حركة سياسية واسعة لبناء مشروع سياسي للفلسطينيين هدِف الى طرح بديل للوضع القائم اعتمد على برنامج سياسي قومي عربي, تأتي وثائق التصور في لحظة غموض سياسي وفراغ في المشروع القومي لتعلن عن كيان ولكن بدون أي ارتباط أو طرح لمشروع سياسي واضح ومن زاوية المفكر المنفصل غالباً عن النشاط الجماهيري والطرح السياسي العام والمندمج في طرح المؤسسات اللا-حكومية الذي يجمع بين خطاب الأقليه وخطاب حقوق الأنسان لتأطير العلاقة مع الدولة.
في الختام, أرى أن هناك العديد من الأسئلة حول العلاقة مع الجماهير يجب الاستمرار في بحثها من أجل فهم أعمق لديناميكيات الخطاب الفلسطيني ومن أجل تحليل أنجح للأستراتيجيات المستقبلية.